الْعَقْلِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْخَبْرُ فَتَعَيَّنَ الْحِسُّ . وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ بِالشَّمِّ وَالذَّوْقَ وَاللَّمْسَ وَالسَّمْعِ ، فَتَعَيَّنَ الْبَصَرُ .
فَإِنْ قِيْلَ : كَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَاكُمْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لَا يُرَى ؟ قُلْنَا : الْتَزَمْنَا بِهَذَا التَّعْلِيلِ جَوَازَ رُؤْيَةِ كُلِّ مَوْجُودٍ ، لَا وُجُودَهَا . وَمَا مِنْ مَوْجُودٍ إِلَّا وَيَجُوزُ رُؤْيَتُهُ ، لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ لِحِكْمَةٍ . لَا لِأَنَّه لَيْسَ بِجَائِزِ الرُّؤْيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ مَرْئِيًّا لَكَانَ بِجِهَةٍ مِنَ الرَّائِيِ ، فَإِنَّا مَا رَأْيُنَا فِي الشَّاهِدِ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ فِي جِهَةٍ مِنًّا . قُلْنَا : الرُّؤْيَةُ إِثْبَاتُ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ ، بِحاسَّةِ الْبَصَرِ . فَإِنْ كَانَ الْمَرْئِيُّ بِجِهَةٍ يُرَى فِي جِهَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجِهَةِ يُرَى كَذَلِكَ . أَلَيْسَ أَنَّا مَا عَلِمْنَا شَيْئاً فِي الشَّاهِدِ إِلَّا وَهُوَ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ ، ثُمَّ عَلِمْنَا اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْجِهَاتِ ، فَكَذَا هَذَا . وَالدَّلِيْلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ اللهَ يَرَانَا وَلَسْنَا بِجِهَةٍ مِنْه .
فَإِنْ قِيْلَ : لَوْ كَانَ مَرْئِيًّا لَرَأَيْنَاهُ فِي الْحَالِ ، إِذْ لَا خَلَلَ فِيْ أَبَصَارِنَا وَلَا حِجَابَ عَلَيْه .
قُلْنَا: كُلُّ مَا جَازَ رُؤْيَتُهُ إِنَّمَا نَرَاهُ إِذَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِيْ أَبْصَارِنَا ، فَإِذَا لَمْ يَخْلُقْ لَا نَرَاهُ ، وَإِنْ كَانَ هُو مَرْئِيًّا فِي ذَاتِهِ ، كَالْجِنِّيِّ يَرَاهُ الْمَصْرُوعُ وَلَا يَرَاهُ مَنْ حَوْلَهُ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَرَهُ أَصْحَابُهُ. وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْهِرَّةَ تُبْصِرُ الْفَأْرَةَ فِي اللَّيْلِ وَلَا نَرَاهَا ، لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ قِيْلَ : لَوْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَرْئِيًّا إِمَّا أَن يُّرَى كُلُّه أَو بَعْضُهُ ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ مَحَالٌ .
قُلْنَا : نُعَارِضُكُمْ بِالْعِلْمِ : يُعْلَمُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ، أَوْ لَا يُعْلَمُ أَصْلاً ؟ فَكُلُّ جَوَابٍ لَكُمْ فِي فَصْلِ الْعِلْمِ فَهُو جَوَابُنَا فِي فَصْلِ الرُّؤْيَةِ . ثُمَّ نَقُولُ : قِسْمَةُ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا لَهُ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ ، وَاسْتَحَالَ اتِّصَافُ اللهِ بِذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ التَّقْسِيمُ .