وَحُجَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ سُؤَالُ مُوْسَى عَلَيْه السَّلامُ الرُّؤْيَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى . كَمَا أَخْبَرَ بِقَولِهِ تَعَالَى :( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ )، مَعَ أَنَّه عَرَفَ اللهَ تَعَالَى حَقَّ مَعْرِفَتِهِ ، مُنَزِّهاً عَنِ التَّشْبِيهِ وَالْجِهَةِ وَالْمُقَابَلَةِ ، وَاعْتَقَدَ مَعَ ذالِكَ أَنَّه مَرْئِيٌّ حَتَّى سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ . فَمَنْ زَعَمَ اسْتِحَالَةَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ادَّعَى مَعْرِفَةَ مَا جَهِلَهُ مُوسَى عَلَيْه السَّلامُ مِنْ صِفََاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا فَاسِدٌ . وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّقَ رُؤْيَتَه بِاسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ بِقَوْلِه :( فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي )، وَاسْتِقْرارُ الْجَبَلِ مُمْكِنٌ عَقْلًا . وَالتَّعْلِيقُ بِالْمُمْكِنِ يَدُلُّ عَلَى إِمْكانِهِ . وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخَبَرَ أَنَّه تَجَلَّى لِلْجَبَلِ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ فِي الْجَبَلِ ، نَصَّ عَلَيْه الشَّيْخُ الْإمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ .
فَإِنْ قِيْلَ : إِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُم يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى :( لَنْ تَرَانِي )، وأَنَّه يَقْتَضِيْ النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ ، يَدُلُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ الرُّؤْيَةِ . قُلْنَا : نَحْنُ اسْتَدْلَلْنَا بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :( لَنْ تَرَانِي ) يَقْتَضِي نَفْيَ الْوُجُودِ فِي الدُّنْيا لَا نَفْيَ الْجَوَازِ ، فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ . وَقَوْلُهُ : إِنَّه نَفْيٌ عَلَى التَّأْبِيدِ ، قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّ كَلِمَةَ ،“ لَنْ “ لِلتَّأْبِيدِ ، بَلْ لِلتَّأْكِيدِ فَحَسْبُ . وَالدَّلِيْلُ عَلِيْه قَوْلُه عَزَّ وَجَلَّ خَبْرًا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيهَا السَّلامُ ( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) قَرَنَهَا ب “ الْيَوْمَ “ وَالتَّأْبِيدُ مَعَ التَّأْقِيتِ يَتَنَاقَضَانِ . وَلَوْ كَانَ لِلتَّأْبِيدِ لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ النَّفْيَ فِي دَارِ الدُّنْيا لَا فِي الْآخِرَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْه قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ )، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَينَا رَبُّكَ )