كَمَا قُلْنَا : الْقُرْآنُ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَإِذَا ذُكِرَ مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْقِرَاءةِ ، كَمَا يُقَالُ : قَرَأْتُ نِصْفَ الْقُرْآنِ ، أَوْ ثُلُثَهُ ، أَوْ رُبُعَهُ ، أَوْ ذِكْرٌ مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمَكْتُوبِ ، كَمَا يُقَالُ : يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ والجُنُبِ مَسُّ الْقُرْآنِ . كَانَ الْمُرَادُ مِنْه الدَّلالَةَ عَلَى كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَكُونُ حادِثًا وَمَخْلُوقًا . خِلاَفًا لِمَا تَوَهَّمَتِ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ حُروفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . فَهُوَ بَاطِلٌ ، لِمَا أَنَّ مَا يَتَجَزَّأُ يَتَبَعَّضُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حادِثًا مَخْلُوقًا .
وَقَوْلُ مَنْ تَوَقَّفَ فِي أَنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى حادِثٌ أَمْ قَدِيمٌ . مَخْلُوقٌ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ، بَاطِلٌ . لِأَنَّ التَّوَقُّفَ يُوْجِبُ الشَّكَّ ، وَالشَّكُّ فِيمَا يَفْتَرِضُ اعْتِقَادُهُ كَالْْإِنْكارِ سَواءٌ . فَيَكُونُ كَمَنْ زَعَمَ أَنِّي اعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَلَكِنْ أَتَوَقَّفُ أَنَّه وَاحِدٌ أَمِ اثْنَانِ أَمْ ثَلاثَةٌ ، لِاخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ . فَإِنْ قِيْلَ : لَوْ كَانَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمًا ، وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ ، كَيْفَ يَصِحُّ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الْأَزَلِ وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ . قُلْنَا : كَمَا يَصِحُّ عِنْدَكُمْ الْخِطَابُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِنَا الْآنَ ، بِكَلاَمٍ حَدَثَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْه السَّلامُ ، وَهُمْ مَعْدُومُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . فَكُلُّ جَوَابٍ لَكُمْ فِيه فَهُوَ جَوَابٌ لَنَا عَنْ هَذَا الْإِشْكالِ .
ثُمَّ نَقُولُ : الْأَمْرُ لِلْمَعْدُومِ لِيَجِبَ فِي الْحالِ لَا يَجُوْزُ ، فَأَمَّا الْأَمْرُ لِلْمَعْدُومِ فِي وَقْتِ وُجُودِهِ جَائِزٌ . فَإِنْ قِيْلَ : سَمِعْنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ :( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ )، كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْإِخْبَارُ فِي الْأَزَلِ عَنْ إِرْسَالِ نَوْحٍ عَلَيْه السَّلامُ بِلَفْظٍ المَاضِي ، وَنَوْحٌ عَلَيْه السَّلامُ وَقَوْمُهُ لَمْ يُوجَدَا بَعْدُ ؟
قُلْنَا : إِخْبَارُ اللهِ تَعَالَى لَا يَتَنَوَّعُ إِلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ ، بَلْ نَقُولُ : قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ إِخْبَارٌ عَنْ إِرْسَالِ نَوْحٍ عَلَيْه السَّلامُ مُطْلَقًا ، وَإِنَّه بَاقٍ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأبَدِ ، فَقَبْلَ الْإِرْسَالِ كَانَتْ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْه (( إنَّا نُرْسِلُ نُوْحًا ))، وَبَعْدَ الْإِرْسَالَ (( إِنَّا