ثُمَّ حَقِيقَةُ الْكَلاَمِ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ الَّذِيْ تَدُلُّ عَلَيْه الْحُرُوْفُ وَالْأَصْوَاتُ . كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
وَلِهَذَا سَمَّى أهْلُ اللُّغَةِ كُلَّ عِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى . كَلاَمًا . لَا غَيْرَ . وَقَدْ صَرَّحَ الْكِتَابَ بِكَلاَمِ النَّفْسِ . حَيْثُ قَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ). وَالرَّجُلُ يَقُولُ لِغَيْرِه : لِي مَعَكَ كَلاَمٌ أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ بِهِ . إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ سُمِّيَتْ كَلاَمًا . لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْكَلاَمِ . وَكَذَا الْأُمَّةُ اجْتَمَعَتْ عَلَى تَسْمِيَةِ مَا فِي الْمُصْحَفِ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَا سَمَّوْا مَا يَقْرَأُهُ القَارِي أَيْضًا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَاتَّفَقْنَا مَعَ الْخُصُومِ عَلَى أَنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى مَعْنَى وَاحِدٌ . وَلَهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالْأَشْكَالُ الْمَنْقُوشَةُ عَلَى الْقِرْطَاسِ تُخَالِفُ بِحَقِيقَتِهَا الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةَ فِي اللَّهَوَاتِ . فَلَوْ كَانَتِ الْحُرُوْفُ الْمَكْتُوبَةُ كِلاَمًا حَقِيقَةً لَمْ تَكُنْ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ كَلاَمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ . وَكَذَا عَلَى الْقَلْبِ . وَمَعَ سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَلاَمًا وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةِ . فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ يَدُلُّ عَلَى عَيْنٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْه الْمَلْفُوظُ . فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُمِّيَ كَلاَمًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْكَلاَمِ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِنَا . مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا ، مَحْفُوظٌ فِي قَلُوبِنَا ، غَيْرُ حالٍّ فِيهَا . كَمَا أَنَّ النَّارَ مَذْكُورَةٌ عَلَى اللِّسَانِ ، مَكْتُوبَةٌ عَلَى الْقِرْطَاسِ غَيْرُ حالَّةٍ فِيهِمَا .
فَأَمَّا الْقُرْآنُ تَارَةً يُطْلَقُ عَلَى الْمَقْرُوءِ . وَتَارَةً يُطْلَقُ عَلَى الْقِرَاءَةِ ، وَتَارَةً عَلَى الْمَكْتُوبِ . فَإِذَا ذُكِرَ لَفْظُ الْقُرْآنِ مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى المَقْرُوْءِ كَانَ قَدِيمًا غَيْرَ مَخْلُوقٍ