مُتَمَكِّنًا عَلَيْه ، وَمَا جَازَ عَلَيْهِ التَّنَاهِيْ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَلِأَنَّ التَّعَرِّيَ عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا فِيْ الْأَزَلِ ، لِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخُصُومِ أَنَّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى مُحْدَثٌ ، فَلَوْ ثَبَتَ التَّمَكُّنُ وَالْجِهَةُ بَعْدَ أَنْ لَّم يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأَزَلِ ، لَحَدَثَ فِي ذَاتِهِ مَعْنَى لَم يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأَزَلِ ، فَيَصِيْرُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَإِنَّهُ مَحَالٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :( اَلرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )، هَذَا مُحْتَمَلٌ فَإِنَّ الاسْتِواءَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِه الاسْتِيْلَاءُ ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِه الْقَصْدُ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّمَامُ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِه الاسْتِقْرَارُ وَالتَّمَكُّنُ، فَلَا تَكُونُ لَهُمْ حُجَّةٌ فِيهِ مَعَ الاحْتِمَالِ، مَعَ أَنَّ التَّرْجِيْحَ مَعَنَا، لِمَا قُلْنَا ، فَإِنّ اللهَ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ ذِكْرُ الاسْتِوَاءِ لِلْمَدْحِ فِي حَقِّ الْخَلْقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ وَالاسْتِقْرَارُ ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ التَّمَدُّحَ مِمَّا يَمْتَازُ بِه عَمَّنْ لَا يُدَانِيهِ وَلَا يُسَاوِيْهِ ، وَإِذَا كَان الاسْتِواءُ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ يُسَاوِي فِيهِ كُلُّ دَنِيٍّ وَحَقِيرٍ ، فَلَا يَكُوْنُ فِيهِ كَثِيرُ المَدْحِ .
وَقَوْلُ مَن قَالَ : إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، أَفْسَدُ ، لِأَنَّ الْمُتَمَكِّنَ يَسْتَحِيْلُ أَن يَّكُونَ فِي مَكَانَيْنِ فِي زَمانٍ وَاحِدٍ، فَمَنِ اسْتَحَالَ عَلَيْه التَّمَكُّنُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَن يَّكُونَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا.
وكَذَا قَوْلُ مَن قَالَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِالْعِلْمِ لَا بِالذَّاتِ، لِأَنَّ مَن يَعْلَمُ مَكَانًا لَا يَصِحُّ أَن يُّقَالَ: هُوَ فِيْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالْعِلْم.
وَكَذَا الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ بَاطِلٌ أَيْضًا ، لِأَنَّ وُجُودَه فِي سَائِر الْجِهَاتِ مَحَالٌ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِ الْجِهَاتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ بِجِهَةٍ مِّنَ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَّكُونَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ مُقَدَّرَةٌ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ أَو أَنَقْصَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ لِذَلِكَ الْقَدْرِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ إِيَّاهُ فِي الْجَوَازِ .