حُسْنُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحُهُ ، وَيُعْرَفُ أَيْضًا حَدَثُ الْعَالَمِ وَقِدَمُ الصَّانِعِ ، وَقَالَتْ الْمَلاَحِدَةُ وَالرَّوَافِضُ وَالْمُشَبِّهَةُ وَالْخَوَارِجُ الْمُحَكِّمَةُ : لَا یُعرَفُ بِالْعَقْلِ شَيْءٌ ، وَلا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : الْعَقْلُ مُوجِبُ الْإيمَانَ بِاللهِ تَعَالَى ، وَشُكْرَ نِعَمِهِ ، وَمُثْبِتُ الْأَحْكَامِ بِذَاتِه ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، الْعَقْلُ آلَةٌ يُعْرَفُ بِهَا حُسْنُ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحُهَا وَوُجُوبُ الْإيمَانِ وَشُكْرُ الْمُنعِمِ، وَالْمُعَرِّفُ وَالْمُوجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ تَعَالَى ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ ۔
ثُمَّ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ إِذَا كَانَ بِحالٍ يُمْكِنُهُ الاسْتِدْلَالُ ، هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا ؟ قَالَ الشَّيْخُ الْإمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ المَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَائِخِ الْعِرَاقِ : يَجِبُ عَلَيه ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ شَيْءٌ
وَدَلالَةُ كَوْنِ الْعَقْلِ حُجَّةً قولُهُ عَزَّ وجَلَّ : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْه مَسْئُولًا ) ، وَالسَّمْعُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْبَصَرُ بِالْمُبْصَرَاتِ ، وَالْفُؤَادُ بِالْمَعْقُولَاتِ ، مَعَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَا يَسْتَغْنِيَانِ عَنِ الْعَقْلِ ، لِأَنَّ السَّمْعَ يَسْمَعُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَالْبَصَرَ يَبْصُرُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيْزُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْعَقْلِ ، يُوضِحُهُ أَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ خَبَرُ الْوَاحِدَ ، وَهُوَ فِي ذَاتِه مُحْتَمَلٌ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيْزُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ ، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْمُخْرِقَةِ هُوَ الْعَقْلُ فَإِذَنْ مَدَارُ الْمَعَارِفِ وَالمَوَاجِبِ بِالتَّحْقِيقِ عَلَى الْعَقْلِ ، وَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ نَاظَرُوا قَوْمَهُمْ بِالدَّلائِلِ الْعَقْلِيَّةِ خَاصَّةً ، وَحَاجَّ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَعَ الْمَلِكِ وَأَبِيه وَقَوْمِهِ ، كَمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيه آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ) الآيَةُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيه وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( مَا هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الدَّلائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ